عبد الله بن محمد المقرن: أنوار الحُكْم المشعّة

عبد الله بن محمد المقرن: أنوار الحُكْم المشعّة

شارك

المقصود بأنوار الحُكْم المشعّة هي تلك السمعة المغرية التي تشعّ من أحد الأنظمة الجديدة الحاكمة المخالفة للتوجه الغربي، وهذه الأنظمة الجديدة تكون في الغالب ثائرة على الحكم الملكي الذي يغلب عليه التوجه الحضاري للغرب .

 

 

 

هذه الأنوار المشعة للحكم الجديد صارت  تغري بعض المغامرين بتقليدها، وتعطي الأمل بالصعود بواسطتها أو بواسطة مثيلاتها من درجة الإنسان الذي يحس أنه مهمش لا قيمة له إلى درجة الإنسان الحاكم، و تعطي الآخرين الذين هم أقل طموحاً الاقتناع  بأن مثل هذه الحكومة  ستكون حكومة راضية عنهم وهم  راضون عنها، وأنها سوف تنقلهم من الإحساس بأنهم بشر لا قيمة لهم إلى بشر منسجمين مع السلطة في توجهاتها، وعن طريق هذا الانسجام سيحصلون على المال والسيطرة والاحترام ورد الاعتبار الذي لم يشعروا به لدى السلطة الحاكمة الحالية، كما أن هذه الحكومة الجديدة (بسبب طبيعة التظاهر بالعناد والتحدي فيها أوفي مثيلاتها) ستنتقم لهم بلا شك من حضارة الغرب التي يحسون أنها تشعرهم دائماً بنقصهم وهوانهم.

 

 

 

في وقت مضى كان بعض الشباب ينادي بالقومية العربية، أو بالاشتراكية، أو الشيوعية؛ لأن أنوار الحكم المشعة كانت تصدر من الاتحاد السوفييتي (المناهض للغرب) عبر النافذة المصرية (التي تشع قوتها وجاذبية رئيسها جمال عبد الناصر على العالم العربي كله). وجمال عبد الناصر- بالطبع- كان ثائراً على الحكم الملكي الذي يتصف بتوجهه الحضاري للغرب، وكان بعض الشباب يرى أن القومية العربية أو الاشتراكية والشيوعية هي الحل لمشاكله ولمشاكل مجتمعه ووطنه،  وبسبب وجود مفردات الكفاح والصمود والتحدي ضمن قاموسها فهي الحل للتصدي للغرب وحضارته،  ولكن حينما ذهب جمال عبد الناصر تضاءلت تلك الأنوار ثم انطفأت كلياً مع انهيار الاتحاد السوفييتي وقبل أن تضعف أو تنطفئ نشأت واجهة جديدة مستمدة من المبادئ القومية والاشتراكية في كل من العراق وسوريا باسم النظام البعثي الذي تشع عليه بقايا أنوار الاتحاد السوفييتي إلا أن تأثيره لم يتعدّ كلاً من العراق وسوريا.

 

 

 

وحينما جاء حكم رجال الدين الشيعة في إيران، وسمّوا دولتهم  بالجمهورية الإسلامية بدأت تدغدغ المشاعر هذه الفكرة البديلة الجديدة المعارضة للحكم الملكي أولاً وللغرب وقيمه وحضارته وعلومه ثانياً، حيث بدأ الاعتقاد بأن فكرة حكومة رجال الدين وولاية الفقيه هي الحل المناسب والسريع، وكانت أنوار الحكم فيه مغرية وجذابة وخاصة صورة الحاكم المتدين الملتحي المعمم والمتوشح بالعباءة، حيث يمكن تصور وجود حاكم سني (أو خليفة) بهذا الشكل الديني الجذاب يمكن عن طريقه القضاء على الحكام القدامى والانتقام بواسطته في نفس الوقت من حضارة الغرب وإيجاد حضارة شرقية بديلة .

 

 

 

بالطبع كانت هناك محاولات سابقة ولكنها بطيئة تتسرب بهدوء عن طريق الإخوان المسلمين، ولكنها تتعثر ولم تنضج إلا مع ولادة الحكم الديني الإيراني، حيث ظهرت الفكرة واضحة مشعة كالشمس وكانت من قوة العمق والتأثير بحيث هزت كيان العالم الاسلامي كله هزاً عنيفاً.

 

ومنذ ذلك اليوم الذي انتزع فيه رجال الدين الحكم من الشاه وسيطروا فيه على الحكم في إيران تغيرت الحياة وتغير سلوك الشباب (دون شعور منهم)، ليتناسب مع المفاهيم الجديدة التي تقوم عليها الثورات الدينية، فأحسوا فجأة بأنهم اهتدوا بعد ضلال، وأنهم صحوا بعد نوم عميق ولذلك سموها بالصحوة المباركة.

 

وهكذا بدأ التوجه الديني المتشدد شيئاً فشيئاً وعم مناحي الحياة كلها،  وإني لازلت أذكر بعضاً من هؤلاء المعاصرين لتلك الفكرة في عام 1400هـ (1979) حيث تحولوا فجأة إلى متدينين ثم اتجهوا نحو الغلو شيئاً فشيئاً، وقد تزامن هذا التحول مع الغزو السوفييتي لأفغانستان الذي وُصِفَت الحرب فيه لإخراج المحتل بالحرب الدينية المقدسة (الجهاد ) فبدأ منذ ذلك التاريخ  العصر الدموي للتشدد والغلو متمثلاً في صراع المجاهدين مع بعضهم ثم نشوء القاعدة وداعش إضافة إلى التفجيرات والعمليات الانتحارية المستمرة حتى هذا التاريخ.

 

ورغم فشل الدويلات الدينية في أفغانستان وتناحرها بعد تحريرها من السوفييت ورغم فشل حكومة طالبان وقصور فهمها السياسي  إلا أن أنوار الحكم الديني لازالت تشع في بواطن النفوس، ولازالت تفرز عشرات الواعظين وآلاف النشاطات الدينية في المدارس والمخيمات وأشرطة التسجيل والمساجد والكتب والنشرات وفي أغلب النشاطات اليومية، وسيلاحظ المرء أن التدين السابق لعام 1400هـ (1979) كان تديناً جميلاً يركز على علاقة الإنسان بربه وكان المتدينون ذوي سمات سمحة محبّة مطمئنة.

 

أما بعد ذلك التاريخ فقد صار التدين منصبّاً على مراقبة الآخرين في علاقتهم مع ربهم كما صار تركيزه على التحزب والفئوية، وتحديد الأعداء والأصدقاء، كما صار يتخذ مواقف سياسية معينة تجاه الأشخاص والأحداث ويميل بصفة عامة إلى الغلو .

 

 

إن إعجاب العربي المسلم بمثل هذه الحكومات ينشأ بسبب ظن خاطئ بأن هذه الدول ستنافس الغرب بصمودها وتحديها فقط وليس بعلمها وحضارتها وصناعتها .

 

والعربي المسلم (بسبب تركيبه النفسي وتربيته وثقافته التي توارثها عن الأجداد) لا يزال عاجزاً عن استيعاب الحضارة الغربية ولذلك فهو يرفضها، ويرفض بالتالي قيمها وعلومها وحضارتها، وفي نفس الوقت يحس بالنقص إزاءها ويبحث عن بديل سريع يشعره بكيانه الضئيل أمام تلك القوى، ولهذا فإنه يسارع بالإعجاب بكل حكم جديد أو ببطل جديد يناهض الغرب،  والسيئ في الأمر أن قِيَمَهُ التي توارثها عن الأجداد وقرأها في التراث لم تمجد على الإطلاق مواضيع الحضارة والثقافة والصناعة بل مجدت ثلاثة أمور هي البطولة والقوة على الأعداء والكرم للأصدقاء.

 

ولا زال هذا المفهوم سائداً ومسيطراً حتى هذه اللحظة وسوف يدركه الإنسان من آلاف قصائد الفخر منذ الجاهلية وحتى الآن.. ولذلك فهو يمجد البطولة في حاكم مثل صدام حسين أو مغامر مثل أسامة بن لادن حتى لو أضرّ به، وتسبب في دمار وطنه ولا يمجد الحاكم الذي يعتني بتعليمه، وجلب المعرفة والحضارة لوطنه وأبناء وطنه.

 

 

 

وفي نفس الوقت،  لم يفسر أحد للعربي المسلم أنه لا يمكن الحصول على البطولة والقوة في هذا الوقت بنفس الطريقة التي كان الإنسان في الماضي يحصل عليهما حين كانت الحرب بالسيف والرمح، فوجود الطائرة والصاروخ والدبابة والأنظمة الإلكترونية المعقدة لا يتم إلا  بالعلم والصناعة، وليس بالجرأة والشجاعة، ولم يُفهِمْه أحد أيضاً بأن الجرأة والشجاعة، إنما هي موضوع بسيط يدرب عليه طلبة المدارس العسكرية في كل دول العالم بشكل اعتيادي ولا حاجة لإعطائه اهتماماً وتمجيداً بأكثر مما يستحقه .

 

 

 

اكتفى الآباء والأجداد بتمجيد القوة والبطولة التي تظفر بعائد سريع وهي نفس تلك القوة والبطولة التي استعملها العرب القدماء في غزو حي من أحياء العرب ثم الرجوع منه بعد ساعات قليلة، وقد حملوا معهم الجواري والأسلاب وصار لديهم ما يكفي من المال إلى حين غزوة أخرى ثم جاءت (الفتوحات)، وكانت مثالاً جيداً للقوة والبطولة التي تؤمن رغد العيش السريع سواء في حصولها على الغنائم بعد الانتصار مباشرة أو في فرض الضرائب والجزية بشكل ثابت ومستمر، ولهذا لم يخطر على بال العربي المسلم في الماضي والحاضر أن يفكر في بديل آخر وهو بديل العلم والصناعة لأن العائد منه يحتاج إلى زمن طويل، ويحتاج إلى أذهان متيقظة صبورة ومنفتحة ومنظمة وهذا الأمر لا يتقنه العربي المسلم ولا يحبه، كما أن أبويه ومجتمعه لم يغرسوا فيه هذا الحب والإعجاب مثلما غرسوا فيه حب البطولة والقوة والكرم .

 

 

 

منذ ذلك اليوم الذي حكم فيه رجال الدين إيران بدأت تشع أنوار الحكم الديني على الأجيال المعاصرة (رغم مخالفتهم للمذهب الشيعي ورغم عدائهم المتبادل مع حكومة إيران) وبدأت تتسرب إلى أذهانهم وسلوكياتهم مفاهيم التدين المتشدد فصاروا يتصرفون وكأن الإسلام نزل للتو .. وكأنه لا يعرف الإسلام أحد غيرهم فتحول اللمم (وهي صغائر الذنوب)  إلى كبائر وكثرت بدع الغلو .. ولهذا نجد فرقاً كبيراً في السلوك وطرق التفكير والنظرة إلى الحياة بين جيل ما قبل عام 1400 هـ (1979) (وهو عام استيلاء الحكومة الدينية في إيران على الحكم ) والجيل الذي بعده،  حيث عمّ الغلو وانتشر في كل أمور حياتنا وظن كل واحد من هؤلاء الغلاة أنه بهذا الغلو قد نزلت عليه الهداية وما علم أن ذلك كله إنما هو بسبب تأثير أنوار الحكم المشعة  التي تغلغلت إلى عقله الباطن من حيث لا يشعر وأن هناك عقلاً جماعياً  أصبح ضحية لتسربات هذه الأنوار المشعة الخادعة .

1 تعليق

  1. تحليل رائع للواقع المعاصر .
    ماذكره الكاتب والمحلل عبدالله المقرن هو تصوير بانورامي بكاميرا رقمية. دقيقة لواقعنا منذ 40 عامآ ونيف .
    سلمت يا استاذ عبدالله

اترك تعليقا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.