أحمد بن علي الشهري: السياسة الجنائية للمملكة

أحمد بن علي الشهري: السياسة الجنائية للمملكة

شارك
تنتقد بعض الدول والمنظمات الدولية سياسة المملكة في التجريم والعقاب، أو ما اصطلح عليه بـ”السياسة الجنائية” ويصفونها في بعض الأحيان بالتعسف والصلافة، وأن المملكة لا تتخذ الإجراءات الكفيلة بحماية حقوق الإنسان في المراحل السابقة لمرحلة المحاكمة وفي مرحلة المحاكمة والمرحلة اللاحقة لها، وقد استمعنا جيداً إلى كلمة مندوب المملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة سعادة السفير فيصل طراد, الذي أكد على أن المملكة تعتز بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية السمحاء، والتي تضمن العدالة والحقوق والواجبات للجميع بالتساوي دون أي تمييز, وخير دليل على ذلك مستوى النمو والازدهار والتقدم الذي تعيشه المملكة والمجتمع السعودي كافة، وأفراده من الجنسين مقارنة مع كثير من دول العالم.
ولعلي أوضح هنا وأبين أن مفهوم السياسة الجنائية في المملكة يتطابق تماماً مع المفهوم الإسلامي لها، وهي جزء من ما يسمى بـ”السياسة الشرعية” والذي  يقوم على معنى “درء المفاسد الواقعة أو المتوقعة عن الفرد والمجتمع بإقامة أحكام الحدود والقصاص وغيرها، والتذرع لتحقيق الأمن بكافة الوسائل الممكنة في ضوء مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها” كما جاء في أحد معانيها.
وإذا كانت السياسة الجنائية في التشريع الإسلامي وفي الاتجاهات الوضعية تتفق في المضمون والأهداف نظراً لكون كل منهما يهدف إلى تحقيق الأمن وسلامة المجتمع، إلا أنهما يختلفان من حيث الثوابت، فإن مما يميز السياسة الجنائية للمملكة أنها تنطلق من وحدة المصدر والتلقي، فهي تستقي قواعدها ومبادئها من معين واحد وهو الوحي، وتقوم على قواعد محكمة ودعائم متينة، بخلاف السياسات الوضعية القائمة على الاجتهاد البشري الأمر الذي أصابها بنوع من التناقض والاختلاف تارة، والتخبط وعدم الثبات تارة أخرى، حيث نجد أنها تؤسس رؤيتها على الافتراضات والظنون العقلية، وأسس فلسفية متباينة ومتعارضة، حتى مع التطور الذي بدأ يدب في اتجاه تلك السياسة بداية من منتصف القرن التاسع عشر على نحو يتجه إلى دراسة الجريمة بطريقة تجريبية علمية بدلاً من الطريقة التجريدية الفلسفية.
وقد رأينا كثيراً من فقهاء السياسة الجنائية المعاصرة يتجهون نحو المناداة إلى تبني نظام للتجريم والعقوبة شبيه بنظام “التعازير” في التشريع الجنائي الإسلامي، مبدين إعجابهم بالمرونة التي يتمتع بها في تقديره لقاعدة “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص”، وبالخروج عليها بالقدر الذي لا يجعل من النصوص الجنائية نصوصاً جامدة أو مجردة من المرونة بشكل لا يمكن معه مواجهة الظواهر الإجرامية.
السياسة الجنائية بشكل عام تعكس المصالح الواجب حمايتها في الدولة، والقانون هو الذي يحدد المصلحة الجديرة بالحماية من بين المصالح المتناقضة ، ولهذا نجد التباين والاختلاف بين دولة وأخرى وفقاً للزاوية التي تنظر من خلالها إلى المصلحة.
ولو نظرنا إلى واقع السياسة الجنائية الوضعية سنجد أنها لا تحكم سوى التصرفات الضارة والأفعال غير المشروعة، دون الاهتمام بجانب إرشاد العقول إلى فهم القيم الأخلاقية، والقيم الاجتماعية والإنسانية، بمعنى أكثر وضوحاً أن هذه السياسات تعيش أزمة حقيقية ناجمة عن كونها تجعل من المجرم المحور الذي تدور حوله العقوبات دون أن تعطي أهمية تذكر للإجراءات الوقائية والتوجيهية، في الوقت الذي نجد فيه أن التشريع الإسلامي حقق التوازن بين التدابير الوقائية والتدابير الزجرية، وفسح المجال أمام القيم التربوية والحوافز المعنوية لأن تحتل دورها المميز للحد من الجريمة، والوقاية منها، وإصلاح الإنسان المجرم، وإعادته للمجتمع ليندمج فيه من جديد ومن أجل أن يسهم في تقدمه وازدهاره.
إن المتأمل في أنظمة المملكة يجد أنها مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذان المصدران هما أساس الحكم، فمـن الأولى أن تكون أصول السياسة الجنائية فيها طبقاً لأحكام التشريع الإسلامي، وهو ما أكدته المادة الخامسة والخمسون من النظـام الأساسي للحكم بقولها: “يقوم الملك بسياسة الأمة سياسة شرعية طبقاً لأحكام الإسلام، ويشرف على تطبيق الشريعة الإسلامية، والأنظمة، والسياسة العامة للدولة..”.
وليس معنى ذلك أن السياسة الجنائية في المملكة قد أغفلت الجوانب المشرقة في علوم السياسة الجنائية المعاصرة، بل على العكس فهي تأخذ بكل اتجاه كما هو شأنها، وتطرق كل سبيل يسهم في إنجاح أهدافها، فكل ما لا يعارض ثوابت الشريعة ومسلماتها محل اهتمامها ورعايتها.
وفي هذا المقال أنقل لكم بشيء من الإجمال بعض الأطر والمبادئ التي تحكم السياسة الجنائية للملكة:
أولاً: مبدأ المساواة، الأمر الذي يعني أن البشر جميعهم من أصل واحد، ولا تفاضل بينهم في أصل الخلقة وابتداء الحياة، قال تعالى: “يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفـس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء”، (النساء، الآية 1)، ويؤكد هذا المعنى النظام الأساسي للحكم في المادة الثامنة بقولها: “يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية” فالشريعة كان لها قصب السبق في تقرير حق المساواة في كل شيء، وهذه المساواة مقيدة بأمور يجري فيها التساوي في أصل الخلقة وما يترتب على ذلك من حقوق لاشتراك الجميع في الصفة الإنسانية.
ثانياً: مبدأ استقلال القضاء، بمعنى أن يكون القضاة أحرارا في البحث عن الحق والعدل لا يخافـون إلا الله، دون أن يكون هناك تأثير من سلطان أو تدخل من ذوي النفوذ، كما أن استقلال القضاء يعتبر من السمات البارزة للقضاء في الشريعة الإسلامية، ويظهر ذلك جليا من خلال الاهتمام بالقضاة والقضاء، سواء من حيث الاختيار أو الشروط المطلوبة أو الصلاحيات المعطاة للقاضي، أو ما يترتب على حكم القاضي من أمور، وقد كان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يعتبر السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية، وأن القاضي لا سلطان لأحد عليه غير سلطان الشريعة الإسلامية، وأنه لا يحق للسلطان نقض حكم صدر عن قاض إذا كان هذا الحكم لا يناقض نصاً صريحاً من القرآن أو السنة، وفي المملكة حرص ولاة الأمر على أن يوفروا للقاضي الضمانات التي تحميه من كل تدخل، وتجعله يؤدي عمله في اطمئنان لا يخشى في ذلك إلا الله، وأكد هذا المبدأ النظام الأساسي للحكم في المادة (46) حيث نصت على أن: “القضاء سلطة مستقلة ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية” ونصت المادة الأولى من نظام القضاء على أن “القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية وليس لأحد التدخل في القضاء”، وجاءت المادة (2) منه لتؤكد أهم ضمانات الاستقلال، وهي عدم القابلية للعزل، ونصـت المادة (39) على عـدم جواز نقل القضاة إلى وظائف أخرى إلا برضائهم أو بسبب ترقيتهم ووفق أحكام النظام، كما حرص أيضا نظام المناطق على النص في المادة (79) على وجوب تنفيذ الأحكام القضائية بعد اكتسابها صفتها النهائية.
ثالثاً: مبدأ شرعية العقوبة، فإن من القواعد الأساسية في التشريع الإسلامي أنه “لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص” أي أن أفعال المكلف المسئول لا يمكن وصفها بحكم سواء بالوجوب أو التحريم أو الندب أو الكراهة مادام لم يرد نص بذلك، فلا حرج على المكلف أن يفعلها أو يتركها حينئذ، وهناك قاعدة أساسية أخرى تقضي بأن “الأصل في الأشياء والأفعال الإباحة” أي أن كل فعل أو ترك مباح أصلا بالإباحة الأصلية، فما لم يرد نص بتجريمه فلا مسئولية على فاعله أو تاركه، وهاتان القاعدتان تؤديان معنى واحدا هو أنه لا يمكن اعتبار فعل أو تركه جريمة إلا بنص صريح، فإذا لم يرد نص يحرم الفعل أو الترك، فلا مسئولية ولا عقاب على فاعل أو تارك، ويظهر من ذلك أن قواعد الشريعة الإسلامية تقضي بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، والقواعد السابقة تستند إلى نصوص شرعية صريحة في هذا المعنى، منها قوله تعالى: “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا”، (الإسراء، الآية 15)، إضافة إلى استنادها للعقل والمنطق الصحيح والسليم، وفي النظام الأساسي للحكم جاء نص المادة (38) بقوله أن “العقوبة شخصية ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص شـرعي أو نص نظامي”.
رابعاً: مبدأ شخصية العقوبة، فمن القواعد في الشريعة الإسلامية أن المسؤولية الجنائية شخصية، فلا يسأل عن الجرم إلا فاعله ولا يؤخذ امرؤ بجريرة غيره مهما كانت درجة القرابة أو الصداقة بينهما، وقد قرر الوحي هذا المبدأ في كثير من آياته، من ذلك قوله جل وعلا “ولا تكسب كل نفس إلا عليها”، (الأنعام، الآية 164)، وأخذ النظام الأساسي للحكم بهذا المبدأ فنص في المادة (38)على أن “العقوبة شخصية … “.
خامساً: مبدأ عدم رجعية النص الجنائي، فالقاعدة العامة في التشريع الإسلامي أن النصوص الجنائية لا تسري إلا بعد صدورها وعلم الناس بها، فلا تسري على الوقائع السابقة على صدورها أو العلم بها إلا إذا كانت أصـلح للمتهم، ومقتضى هذا الأصل أن النصوص الجنائية ليس لها أثر رجعي، وأن الجرائم يعـاقب عليها بالنصوص المعمول بها وقت ارتكابها، فالمتتبع لآيات الأحكام وأسباب النزول يستطيع بسهولة أن يخرج بهذا الفهم، كقوله سبحانه “وما كنا معذبين حـتى نبعـث رسولا” (الإسراء، الآية 15)، وقد أخذ النظام الأساسي للحكم بهذا المبدأ، وذلك بأنه لا يمكن أن يعاقب الإنسان على أمر سابق على النص الجنائي، إنما المنطق والعقـل وقبلهما الشرع يقضي بأن النص الجنائي لا يسري إلا على الأفعال التي تمت بعد صدوره، وهو ما نصت عليه المادة (38) من النظام صراحة بقولها:” … ولا عقاب إلا على الأعمال اللاحقة للعمل بالنص النظامي”.
*دكتوراه في الشريعة والقانون.

لا يوجد تعليقات

اترك تعليقا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.