جون جنكينز: وراء انتقادات الإعدام بالسعودية.. دولة تشعر بتهديد عميق

جون جنكينز: وراء انتقادات الإعدام بالسعودية.. دولة تشعر بتهديد عميق

ترجمة- بيشوى رمزي

شارك

يبدو أن الجميع أراد أن يدلي بدلوه حول قضية الشيخ السعودي المعارض نمر النمر، منذ إعدامه والإعلان عن وفاته السبت قبل الماضي، حيث انفجرت موجات الأثير منذ الإعلان عن وفاته لتناول القضية بصورة أو بأخرى. وكسفير بريطانيا السابق لدى الرياض، طلب مني التعليق على القضية العديد من المرات، بل ووصل الأمر إلى أن طلب مني مقدم البرامج الشهير نيك روبينسون أن أتوقف عن شرح ما يدور في عقول السعوديين أن أقوم فقط بإدانة الحدث.

ربما أتفهم الهدف من السؤال، ولكني أتساءل منذ ذلك الحين عن ماهية القضية تحديدا التي يتم دعوتي وغيري لانتقادها على المحطات التلفزيونية والإذاعية. هل المقصود فقط مسألة إعدام المعارض السعودي أم هويته الشيعية أو وظيفته كرجل دين؟ هل تمتد المسألة إلى قضية تطبيق أحكام الإعدام في المملكة العربية السعودية وطبيعة النظام القضائي هناك وتوقيت تنفيذ الحكم وكذلك تداعياته على عملية السلام في سوريا والعلاقات مع إيران؟ هل تشمل القضية أمور أخرى؟

إدانة الحدث بدون فهم يبدو أمرا غير مجدي إطلاقا. لا يكفي إطلاقا أن نلوم، في مثل هذه القضية، على صعود مجموعة جديدة من الأمراء إلى دائرة العرش في المملكة. الأمر، سواء أكان في المملكة العربية السعودية أو إيران، يمتد إلى أسباب أخرى تبدو أكثر عمقا وهيكلية.

المملكة العربية السعودية لديها أسباب وجيهة لتشعر أنها مهددة في هذه الآونة أ أكثر من أي وقت مضى في تاريخها الحديث، على الأقل منذ الحرب الثقافية التخريبية التي واجهتها في حقبتي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وذلك خلال الصراع السعودي مع مصر في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.

الشعور السعودي بالتهديد يأتي من جراء خمسة عوامل رئيسية، أولها التحديات التي تواجهها من التيار الجهادي السلفي السني، ثانيها التحدي الفكري والمادي المتواصل من قبل إيران، في حين أن العامل الثالث هو انهيار أجزاء كبيرة من نظام الدولة في منطقة الشرق الأوسط منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، والرابع الانهيار الكبير الذي تشهده أسعار النفط العالمي بينما يتمثل العامل الخامس في اهتراء التحالفات التاريخية للمملكة، وخاصة مع الولايات المتحدة.

هذه التهديدات حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها بأي حال من الأحوال، حيث شن تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، وهو التنظيم الذي يعد بمثابة الوريث لجماعة جهيمان العتيبي، والتي هاجمت المسجد الحرام في عام 1979، حملة إرهابية داخل المملكة منذ عقد من الزمان أو أو أكثر من ذلك بقليل، حيث كانوا يهدفون إلى إثارة حالة من التمرد السني بين سكان المملكة. السعوديون لم يدركوا خطورة ما يواجهونه بالسرعة المطلوبة، إلا أنهم بمجرد أن أدركوا حجم الخطر الذي يواجههم، سحقوا الإرهابيين بلا رحمة أو شفقة.

غير أن بقايا التنظيم لم تذهب بعيدا عن المملكة، حيث أعادوا تجميع أنفسهم مرة أخرى في اليمن ليتامروا من جديد وليقوموا بتجنيد عناصر جديدة لهم، من بينهم الإمام الأمريكي أنور العولقي، لتبدأ حملة جديدة من الهجمات التي تستهدف أهدافا سعودية وغربية. الأمر على ما يبدو لم يتوقف عند هذا الحد، حيث شهدت المملكة مؤخرا موجة من الهجمات الارهابية، والتي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مسئوليته عنها، حيث استهدف عدد من المساجد الشيعية، بالإضافة كذلك إلى قوات أمن سعودية، ومسجد سني وقاعدة عسكرية تقع بالقرب من الحدود اليمنية.

أما عن التهديد الإيراني، فهو ليس بجديد، حيث أنه يتزايد ويتناقص مع مرور الوقت واختلاف الظروف. فعندما قامت الثورة الإسلامية في طهران عام 1979، أعلن المرشد الأعلى للثورة أية الله الخوميني أن الثورة الإيرانية ليست ثورة إيرانية أو شيعية فقط ولكنها إسلامية وعالمية، موضحا أنها جاءت من أجل إنقاذ المضطهدين، حيث تبعت تلك الثورة حالة من الاضطراب، حركتها الدولة الفارسية، داخل العديد من دول منطقة الخليج، من بينها الكويت والبحرين والإقليم الشرقي للمملكة العربية السعودية.

تزامنت مع الثورة الإيرانية ظهور العديد من الجماعات الثورية الشيعية في منطقة الشرق الأوسط، من بينها منظمة العمل الإسلامي، والجبهة للثورة الإسلامية في شرق الجزيرة العربية، الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين، حزب الله في الحجاز، بالإضافة إلى حزب الله في لبنان. بل وأن الأمر امتد إلى استهداف عدد من الشخصيات السياسية وارتكاب بعض الأعمال الإجرامية، كمحاولة اغتيال أمير الكويت، اختطاف طائرات كويتية، واستهداف السفارتين الأمريكية والفرنسية في الكويت وكذلك السفارة الأمريكية في بيروت عن طريق هجمات انتحارية.

الأمور شهدت قدرا كبيرا من الهدوء بعد الضغوط السياسية التي مورست على إيران من قبل العالم، حيث كانت أفضل فترات المملكة في تلك التي تولى فيها أكبر هاشمي رافسنجاني ومحمد خاتمي مقاليد الأمور في طهران، إلا أن التجربة أثبتت أن السياسة الأمنية ظلت في أيدي التيار المتشدد خلال تلك الحقب، حتى جاء محمود أحمدي نجاد على رأس السلطة في بلاده  لتعود من جديد تهديدات تصدير الثورة.

غير أن الاضطرابات التي شهدتها البحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وإن كانت بدرجة أقل، في عام 2011 أثبتت للسعوديين أن النظام الإيراني مستعد دائما للتواطؤ مع أية اضطرابات اجتماعية وسياسية قد تشهدها الدول السنية في المنطقة. ثم جاءت المحاولات الخرقاء التي تبناها النظام الحاكم في إيران للتقارب مع نظام الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، والتابع لجماعة الإخوان المسلمين، خلال السنة التي تولى فيها مقاليد السلطة لتكون بمثابة جرس انذار جديد للسعودية، حيث أثارت احتمالات تحالف بين التيارات الإسلامية السنية والشيعية في البلدين واللذان يتمتعان بكثافة سكانية كبيرة.

لم يقتصر الدور الإيراني عند هذا الحد، ولكنه امتد كذلك للدعم الذي قدمته الدولة الفارسية للحوثيين في اليمن وكذلك نشر ميليشياتها في العراق للسيطرة على أجزاء كبيرة من أراضيه، بالإضافة إلى الدور الكبير الذي يلعبه حزب الله اللبناني الموالي لطهران من أجل مساندة الرئيس السوري بشار الأسد.

كل هذه الأمور ساهمت بصورة كبيرة في تحويل الصراع في منطقة الشرق الأوسط إلى الصورة الطائفية المسيطرة في المرحلة الراهنة، وهو الأمر الذي لا ينبغي أن نلقي فيه باللوم على الحكومة السعودية، خاصة وأن المملكة دائما ما تتخذ خطوات سريعة وحاسمة للهجمات التي ترتكب ضد أهداف شيعية داخلهاولكن نتيجة أيديولوجية تتبناها إيران، والتي تضع نفسها في دور حامية المجتمعات الشيعية التي تعاني حرمانا كبيرا في داخل الدول ذات الأغلبية السنية.

وفي نفس السياق، تواجه المملكة العربية السعودية حقبة اقتصادية صعبة للغاية، نظرا للانهيار الكبير الذي تشهده أسعار النفط، هو ما يتزامن مع مبالغ طائلة تتكبدها الحكومة السعودية لخدمة أهداف السياسة الخارجية في ظل الحاجة للتدخل السريع من جانب المملكة في العديد من القضايا الدولية والإقليمية المحيطة بها، هنا أصبحت هناك حاجة ملحة لإعادة هيكلة الاقتصاد في سبيل توفير حوالي أربعة ملايين فرصة عمل جديدة بحلول عام 2020.

في الوقت نفسه هناك فئة من سكان المملكة، ليست كبيرة، ولكنها مهمة، تبدو ضعيفة أمام الإغراءات التي يقدمها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، حيث أنهم يرون التنظيم المتطرف ربما يمثل مشروعا إسلاميا أو الجماعة السنية المنظمة الوحيدة التي يمكنها مجابهة إيران ودحر الشيعة، بالإضافة كذلك لمعانتهم الاقتصادية.

من جانب أخر، يأتي الاتفاق النووي الذي عقدته القوى الدولية مع إيران في يوليو الماضي، ليكون أحد أهم حلقات سلسلة القلق التي تشهدها المملكة في المرحلة الراهنة. القلق السعودي في هذا الإطار لم يأتي من جراء الاتفاق في ذاته، ولكن لأن هذا الاتفاق فشل بصورة كبيرة في معالجة الأنشطة التخريبية غير النووية التي تمارسها الدولة الفارسية البحرين والعراق وسوريا ولبنان واليمن. الاتفاق مع إيران أضفى إحساسا لدى القادة السعوديين أن الحلفاء التاريخيين لهم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى قد تخلوا عنهم تماما.

الحكومة السعودية تعتقد أن النهج البراجماتي الذي يتبناه الرئيس الإيراني حسن روحاني هو مجرد واجهة، تستطيع من خلالها الدولة الفارسية تحقيق أهدافها بصورة كبيرة، وبالتالي فتصبح محادثات فيينا حول الأزمة السورية مجرد أمر ثانوي، ربما سيكون لها تأثير على مستقبل الصراع في سوريا، ولكن ليس بالصورة التي سيكون عليها هذا التأثير إذا ما لم تكن هناك شكوك في النوايا الإيرانية. تلك الشكوك السعودية دفعت حكومة المملكة للإصرار على دعم المعارضة السورية، وكذلك التمسك بضرورة رحيل الأسد خلال المرحلة المقبلة حتى يمكن إنهاء الصراع في الداخل السوري.

ربما ترى أن كل هذه الأمور مجرد أعذار للتغطية على إعدام الشيخ السعودي المعارض الموالي لطهران، إلا أنه قبل أن تقول هذا ينبغي أن تنظر في الأساس إلى الدعوات التي تبناها الشيخ النمر، حيث طالب بتدمير الحكام في المملكة العربية السعودية والبحرين، وكذلك إلى انفصال المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية. كما أنه دعا كذلك إلى تطبيق نظام ولاية الفقيه، والتي يتم تطبيقها داخل إيران.

هذا الأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة للدولة الفارسية، خاصة في السنوات الأولى بعد اندلاع الثورة الإيرانية، حيث أن المئات من رجال الدين الذين لم يكونوا ليجرؤوا أن يمدوا أياديهم بالأذى على ذبابة، شاركوا في إعدام الألاف بناء على أحكام قضائية تحت اسم “البر”، بالإضافة إلى اعتقال العديد من الرموز، ومن بينهم وقف بجوار الخوميني أثناء الثورة، كأية الله شريعتمداري، والذي أهين وأعتقل لأنه فقط تجرأ واعترض على تنفيذ الحدود في ظل عدم وجود الإمام الغائب. ومازالت أحكام الإعدام تطبق بصورة كبيرة ومتزايدة في إيران، حيث تم إعدام حوالي 700 شخص في إيران خلال ستة أشهر فقط، في يوليو 2014.، طبقا للإحصاءات التي أصدرتها منظمة العفو الدولية في ذلك الوقت.

لو نظرنا أيضا إلى واقعة إعدام الشيخ نمر النمر، نجد أنه قد تم إعدامه بصحبة 43 سنيا وهو ما يعني أن رسالة المملكة كانت واضحة لكل مواطنيها، وتتمثل في أن السلطات السعودية سوف تقوم بتنفيذ أحكام القضاء على كل من تسول له نفسه تقويض الاستقرار داخل أراضي السعودية أو التشكيك في شرعية سلطتها الحاكمة.

إذا ما أرادنا انتقاد حادثة الإعدام، فعلينا أولا أن نزيل أسباب مخاوف المملكة، وذلك من خلال فرض التطبيق الصارم للاتفاق النووي الإيراني، واتخاذ إجراءات حاسمة تجاه تجارب الصواريخ الباليستية التي قامت بها طهران مؤخرا، ودعم رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي والذي يسعى للاستفادة من انتصار الجيش العراقي في الرمادي من خلال العمل على دمج السنة في العراق، وكذلك تقويض الدور الذي تلعبه الميليشيات الشيعية هناك، بالإضافة إلى اتخاذ خطوات قوية لردع التدخل الإيراني في البحرين واليمن خلال المرحلة المقبلة.

علينا أن ندرك أن الأمن في منطقة الشرق الأوسط لن يتحقق بأي حال من الأحوال من تلقاء نفسه وأن الاستقرار يحتاج دعما دوليا كبيرا، وبالتالي فإن الأمر لن يكون سهلا على الإطلاق. إيران دولة مهمة للغاية في المنطقة وإدماجها في النظام الإقليمي يعد انجازا كبيرا، لكن عليها أن تتخذ هي إجراءات وخطوات من أجل أن يتحقق هذا الاندماج. علينا أن ندرك أن لدينا مصالح صخمة مع دول الخليج السنية، وأن نظام الدولة في المنطقة هو أساس الاستقرار الإقليمي وسياسي في المستقبل المنظور

ولذلك فينبغي علينا أن نتعامل مع المملكة العربية والسعودية وغيرها من دول المنطقة بمنظور جدي من أجل مناقشة المخاوف التي تحيط بها، وإيجاد حلول جذرية للتحديات المحيطة بها، لأنه ببساطة لن نستطيع أن نقف بعيدا وننزع أيدينا من كافة الأمور، ثم نتفرغ لانتقاد ما نراه فوضويا.

*الكاتب عمل سفير لبريطانيا في كلا من المملكة العربية السعودية وسوريا والعراق وليبيا وبورما، ويشغل حاليا منصب مدير بالمعهد الدولي للدراسات الدولية بالبحرين.

نقلًا عن “نيوزستيتمان”

لا يوجد تعليقات

اترك تعليقا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.