سعيد الأحمد: الإخوة كرومازوف الجدد

سعيد الأحمد: الإخوة كرومازوف الجدد

شارك
في رواية الإخوة كرومازوف للكبير ديستويفسكي يظهر مدى التشظي والخلافات والصراعات بين مجموعة ما، يشير إلى الرابط الأساسي بينهم وهو رابط الأخوة, ذلك الرابط- الذي في مسماه الظاهر- يشي بالتوافق والإرتباط مهما تعددت و تباينت أو تقاطعت المصالح، إلا أن (الأخوان) كرومازوف يضربون بأعراف الرابط عرض الحائط، و ينسفون فكرة الدم الواحد من أجل مصالح فردية متعددة.
لا أعرف إن كان ديستويفسكي يعرف (إخوانا) غير كرومازوف، أم أن المسألة فكرًا إنسانيًا يكرر ويعيد نفسه عقدًا بعد عقد، أما أنها مسألة مصادفة محضة. معرفتي بعمق ديستويفسكي، الذي أجاد سبر أعماق النفس البشرية في معظم أعماله، والذي عاشر (المذلون المهانون) في الريف الروسي القارس بردًا لا سلامًا، ليؤسس مدرسة أدب الإنسان المعذب المنفي، المهمش المنسي، وقدرته الهائلة على تشريح النفس البشرية وتقشير جلدها وإزاحة العظم لإظهار اللب بشكل فاضح وواضح تجعلني أجزم أن الأمر ليس مصادفة!
الإخوان (مش كرومازوف) طالما كانو على إتفاق عندما يقف الأمر على مصالح مشتركة تحقق النفع لهم جميعًا، وتضع مصالحهم المشتركة على هامة إهتمامات الشعوب والأوطان، ولو كان الدمار سبيلها الأوحد، وكثيرًا ما أكلوا لحوم بعضهم عندما تتعارض مصالحهم، بجميع أشكالهم الحزبية والفردية أيضًا.. الغريب أنهم في أشرس حالات صراعاتهم البينية وأكلهم للحوم بعضهم البعض سريعًا ما يلتفون ويتفقون عندما يتعلق الأمر بالحرب علينا و النيل من أوطاننا وأرغفتنا و رزق عيالنا وأمنهم في أرضهم! هذه الدايناميكية المرنة- عند الضرورة والمصلحة- هي ما يرفع منسوب خطورتهم، فالتلون الدائم و خطابات (التقية) الجبانة، ودس السم في الدسم هو ما يحقق لهم الوقوف بعد الإنكسار بكل مرة، و هو ما يضمن لهم شأن الإستمرار؛ بل هو ما يفتح بابهم على مصراعية لإنضمامات جديدة ومستمرة، كما شهدنا تاريخيًا ولازلنا على ذلك نشهد.
عندما نراجع شخصيات الإخوة كرومازوف لدى ديستويفسكي، و شخصيات الإخوان (مش كرومازوف) في محيطنا، سنجد تشابها حد التطابق أحيانًا في الجشع والدناءات والمؤامرات و تقديم المصلحة الخاصة على العامة؛ بل حتى في الأكاذيب الصغيرة والكبرى والتلون المستمر الذي يضمن إستمرار المصلحة, وهذا ما يجعلني أجزم أن ديستويفسكي- الذي لم يتقاطع مع الإخوان (مش كرومازوف) – لم يكن كاتبًا عابثًا ولا متوهما؛ بل قاريء مذهل للنفس الأخوية المدعاة، و مشرح جيد لروح الفضيلة الوهمية.

لا يوجد تعليقات

اترك تعليقا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.