عبدالعزيز الخميس: أنا و«الرافضة»

عبدالعزيز الخميس: أنا و«الرافضة»

شارك

لم تمح السنوات ذكريات معينة، لعل أهمها اكتشافي- لأول مرة- أن إيران موجودة فعلًا خارج كتاب الجغرافيا. ففي كتب التاريخ يسمونها فارس، ويطلقون على أولئك القوم الذين هزمهم أجدادنا وفتحوا ديارهم المجوس. وقد لا تتخلص ذاكرتي من ذلك الفارسي يزدجرد. كان اسمه صعبًا، وغريبًا، وملوثًا بتداخل الحروف وعجمة اللسان.

 

على مقعدي في فصل يشع النور داخله وفي مبنى تم صنعه على عجل، من قبل شركة إيطالية قبضت نصف المبلغ، وقبض المسؤول عن المشروع النصف الآخر، دون أن يحرك سوى قلمه.

 

على ذلك المقعد الدراسي سألني زميلي- الذي كان يقبع متكورًا على كرسي صغير، بحيث كان باقي جسده يسبح في ملكوت هواء الفصل سألني المسكين: “هل سمعت بالخميني، يقولون أنه عاد لإيران وسيحكمهما”.

 

رن الاسم في أذني، لكن بطريقة مختلفة، فلم أستحضر تاريخ إيران، ولا تضاريسها وأسماء مدنها- كعادتي مع كل بلد يذكر أمامي- بل ذهبت لما هو أبعد من ذلك.

 

قلت له: “الخميني؟ هناك تشابه بيني وبينه”. دهش الطفل الطافح، لكني لم أجعله يتوه كثيرًا، فقارنت بين اسمه واسم عائلتي وجعلت أردد فيما يشبه الغناء: “الخميني.. الخميسي.. آية الله الخميسي”.

 

ووسط هذه النشوة، التي تملكتني ببراءة الثعالب، فوجئت بزميل كان يستمع إلينا وهو يرسم سيارة أحلامه، يقول: “هل أنت رافضي حتى تشبه الخميني”.

 

سألته: “ما معنى رافضي؟”، قال: “أبي يسميهم بالروافض”. قلت له: “ما معنى ذلك”. رد: “لا أعلم”.

 

قلت له: “فلننتظر المعلم قد يدلنا على السبب”.

 

جربت بكل صبر مع معلم الجغرافيا المصري، فقال إنه يسمع في مصر تسمية الإيرانيين بالروافض، لكنه لا يعلم لماذا. ولخص موقفه في التالي: “هم بيرفضوا حاجة مش عارفها”.

 

وأخيرًا دخل علينا أستاذ الدين، ويا لجمال طلعته، فقد كانت لحيته أشبه بخيوط ألماس، تتخللها أوراق كافور معتق في شجرة صندل هندية.

 

المهم، تجرأت وسألته، فقال لي دون أن يجيب: “أنت ما رأيك في السبب؟”، قلت: “الاسم رافضي، روافض، أي أنهم يرفضون شيئًا ما، ما هو لا أعلم”.

 

قال بصلف: “هذا عمرك ولا تعلم”.

 

ويتابع المعلم وهو يرفع صوته متوجهًا للجميع: “يقولون الخذلان يأتينا من أين، من عوائل لا تعلم أبناءها من هو عدوهم”.

 

ثم صرخ: “الروافض أعداء، وهم خطر على الأمة، ويجب مقاتلتهم. هم أشد خطرًا من اليهود”.

 

ثم جلس على كرسيه- كعادته- بعد أن رمى قنبلته المدوية التي أيقظت زميلنا اليمني، الذي يطيب له النوم في آخر صفوف الفصل، وقال- وهو يلوح بالعصا: “اكتبوا ٥٠٠ كلمة عن خطر الروافض على الإسلام الآن. وإلا لن تذهبوا إلى الفسحة”.

 

نظر بعضنا إلى بعض.. وبدأنا نحرك أقلامنا المهترئة.. وكتبنا: الروافض خطر على الإسلام، لأنهم أخطر من اليهود، وهم من يجب مقاتلتهم…و.

 

لم يبق شيئا نكتبه، لم تنهمر الكلمات، تجمد القلم وضاقت الأصابع بوجوده.. ماذا نكتب.

 

نظرت إلى الطفل المكوم في الهواء.. رأيت عينيه وغضب واضح يشع منها تجاهي لإثارتي الموضوع، وكأنني رأيت أيضًا دموع الفشل والعجز ومحدودية القدرة في عينيه الصغيرتين.

 

فجأة لعلع صوت ذلك الزميل الذي كان يقبع في آخر الفصل..لوح طرف شماغه إلى قمة رأسه، ووجهه مكتئب، وصارم، كان وجوده بيننا خطأ لا يغتفر، كيف يضعون رجلا عمره يقارب الثلاثين مع طلبة صغار ليزاملهم. لكنه رجل متسامح وطويل صبر.. لا غرابة فهو سائق تاكسي، يصر على التعلم ولو مع الصغار.

 

قال سائق التاكسي الزميل: “يا أستاذ.. ماذا نكتب، وكيف نكتب عن أناس لا نعرفهم. اشرح لنا من هم، وسنعرف، ثم نكتب”.

 

تنفسنا جميعًا الصعداء.

 

يا للسعادة.. يأتيك الفرج دائمًا من أصحاب “التكاسي” في وقت تحتاجها تحت حرارة الأسئلة المحرجة.

 

وقف المعلم بعد أن طوى فواتير مواد بناء بيته الجديد، ثم توجه لزميلنا سائق التاكسي، وقال له بعزم وإصرار: “أنت تسوق تاكسي من بعد العصر لآخر الليل، ما تعرفهم”. قال زميلنا الرجل: “لا أعرفهم ولم يركب معي أيًا منهم. وحتى لو ركب هل تريدني أن أسأل من يركب معي أنت رافضي ولا قابلي”.

 

ضحكنا، وصمتنا سريعًا، بعد أن التفت إلينا المعلم. شعرت بأنه تورط. بعد أن ورطنا.

 

ففضلت التدخل كعادتي.

 

سألت الأستاذ: “عندي اقتراح.. قل لنا لماذا يسمون بالرافضة وسنكتب ألف كلمة فيهم. ولا يهمك أستاذ نحن طلبتك، وأنت معلم ونحن منك نتعلم”. (قلتها قبل ولادة سعد المجرد).

 

أقدم المعلم على انسحاب تكتيكي من المواجهة مع سائق التاكسي الزميل، (الحمد لله أن الحزام الناسف لم ينتشر آنذاك)، سار وهو يدعو الله أن يدق الجرس، صرخ فينا: “سأترك لكم فرصة إلى الغد، فكروا وابحثوا وغدًا نتحدث”.

 

فرحنا كثيرًا.. وببراءة لم نفكر أن الأستاذ نفسه كان يحتاج للبحث، ولسنا نحن، إلا بعد ما يزيد عن ثلاثين عامًا.

 

في الغد، جاء المعلم، وبدأ الحصة بموضوع عن توحيد الربوبية، لا أذكر، أو توحيد الأسماء والصفات، ولم ينبس ببنت شفة عن الروافض، ونحن طبعًا رفضنا فتح الموضوع في اتفاق بيننا جميعًا على أن نرفض قصة الروافض، حتى لا نكتب ٥٠٠ كلمة في موضوع لا نعرف عنه شيئًا.

 

حين نرى بعضنا البعض، وبعد كل تلك العقود، سؤالنا هو: لماذا لم يتحدث المعلم في الغد عن موضوع الروافض. نطرح أفكارًا منها: قد يكون معلمنا مصابًا بالزهايمر، أو أنه تغير بين ليلة وضحاها وأصبح ليبراليا (الانحراف وارد، في أحسن العائلات)، أو أن سائق التاكسي مباحث، وقد “مصع أذن” المعلم في الخارج، وقال له: “لا سياسة بعد اليوم”!!

 

لا أحد يعلم إلى هذا اليوم.

1 تعليق

  1. سلمت هذه الأنامل
    تعريف الروافض مرفوض أن يطرح لأنه لا يعتني به إلا من يرفض الوحدة بين المسلمين ومن يشجع على ذبح الأبرياء مثل الدواعش ومن لف لفهم في هذه الكرة الأرضية .

اترك تعليقا

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.